الدكتور عبدالمهدي القطامين

لم يكن فجر الحادي والعشرين من اذار عام ١٩٦٨ يوما عاديا في مسيرة الدولة الاردنية وجيشها المقدام فقد حول جيشنا العربي نزهتهم التي ارادوها الى مقبرة لمت اجسادهم النتنة حين ارادوا ان يحتسوا الشاي على جبال السلط فاذا بهم مع ظهيرة اليوم يطلبون وقف اطلاق النار عبر ربيبتهم امريكا التي شاهدت ماذا صنع الرجال في يوم الكرامة الخالد.
لم يكن ذلك الفجر الاذاري عاديا في ثكنات الجيش العربي التي تمركز فيها في الخطوط الامامية وكانوا يشاهدون بالعين المجردة ارتالهم قادمة من الغرب تصطحب معها الصحفيين الذين دعاهم رئيس اركان الجيش الغازي ليشربوا الشاي في ربوع السلط ….في ذلك اليوم الاذاري كان الملك الراحل الحسين يخاطب جنده : اقتلوهم حيث ثقفتموهم.. اقتلوهم بأسلحتكم وبأيديكم وأسنانكم”.
وكان ضابط الملاحظة الملازم أوَّل “خضر شكري” يُبرق لقائد الجبهة: “سيدي تمّ محاصرتنا من قوّات ‏العدوّ، سأعطيكم إحداثيّات الموقع الآن وأرجو أن يتمَّ قصف موقعنا حالًا، لن نقع في الأسر ‏سنموت ولكن شهداء…”. “من أيِّ صخرٍ قُدَّ قلبكَ يا خضر ابن يعقوب…!”، راح العميد ‏‏”مشهور” يردِّد وهو يوزِّع نظره في القادة المحيطين به في غرفة العمليّات التي أخذت ترتجّ ‏جرّاء القصف المدفعيّ للعدوّ، فيما كان صوت الملازم “خضر” يتردَّد عبر الجهاز: “أحاط العدو ‏موقعي، ارموا موقعي.. دمِّروا موقعي، إني نلتُ الشهادة في سبيل الله، أرجوكَ سيدي الآن، الآن ‏ليكُن القصف؛ سيموتون جميعًا، وسيكونون قتلى ونكون نحن الشهداء… أرجوكَ سيدي لن ‏أستطيع أنْ أتصل بكُم مرَّة أخرى إنهم يقتربوووون….”. وحين راحت مدفعيّة كتيبة “خضر” ‏تدكّ موقعه أقسم بعض الجنود الذين أدركوا الواقعة أنَّ السماء بدت آنذاك تبتسم، وأنهم شاهدوا ‏روحًا مضرجة بالدم كانت تحفّها أجنحة بيضاء صعودًا نحو السماء‎.‎

الشمس تتوسَّط كبد السماء فيما راحت خيوطها تلسع الجثث المُلقاة على الطريق الواصل ما بين ‏‏”الغور” و”جسر داميا”، و”عوزي” يتلقّى الصدمة تلو الأخرى فيما راحت الأخبار تَرِدُه تباعًا: ‏‏”فقدنا أكثر من مئة جندي وأكثر من عشرين دبّابة، ما العمل سيدي القائد…؟”، الصمت يطبق ‏على المكان، أخذ “عوزي” يذرع غرفة العمليات جيئة وذهابًا ومن حوله قادة الكتائب ينتظرون ‏منه الأوامر، وبعصبيّة مفرطة يردّ: “سنطلب وقف إطلاق النار الآن، فلا قدرة لنا على تحمُّل ‏المزيد من الخسائر… جيشنا الذي لا يُقهر قُهر اليوم، اتصلوا بأصدقائنا في العالم لمساندتنا وليتمّ ‏الضغط على الملك الحسين ليوقف إطلاق النار.
برقيّة تصل “عوزي ناركيس” قائد جبهة العدوّ الذي أصبح تمامًا في حالة من الهيجان ‏والغضب هذه المرَّة من قائد سرب الدبّابات “شلومو جروسك”: “لقد شاهدتُ قصفًا شديدًا عدة ‏مرّات في حياتي، لكنني لم أرَ شيئًا كهذا من قبل، لقد أصيبت معظم دبّاباتي، سيّدي أوقفوا القتال ‏بأيّ ثمن…”. مذعورًا هلعًا خائفًا بدا “عوزي” وهو ينتظر ردّ ملك الأردن على طلب وقف القتال ‏الذي طلبه عبْر الوسيط الدُّولي، لكنَّ الرد لم يتأخّر، فقد كان جواب الملك صادمًا له: “لن نوقف ‏القتال ما زال جندي واحد لكم شرقيّ الجسر، إمّا الموت أو الانسحاب”…. “كلاهُما مُرّ”…. راح ‏‏”عوزي” يردِّد، “ولكنَّني أفضِّل الآخر… ماذا تقولون أيها القادة؟؟؟؟”، وبصوت واحد ردَّد الكل: ‏‏”الانسحاب يا سيدي، الانسحاب، فقد خسرنا أكثر ممّا خسرناه في حرب حزيران”.‏

ما ان مالت الشمس نحو المغيب حتى ارتفع هتاف الجند الله أكبر مثلما ارتفعت أهازيج تحيّي الحسين الملك، كان الجميع يترقَّب ما ‏يقوله الملك عبر إذاعة المملكة حتى جاء الصوت المجلجل: “يا إخوتي في السلاح يا حصن ‏الأردن الحصين ودرع العرب المتين يا معدن الفخر وينبوع الكبرياء، يا ذخر البلد وسند الأمة، ‏وأصل البطولة والفداء، أحيّيكم تحيّة إكبار لا تقف عند حدّ وتقدير لا يعرف نهاية، وأبعث مثلها ‏إلى أهلي من ذوي الأبطال الذين سقطوا في ساحات الوغى بعد أن أهدوا إلى بلدهم وأمّتهم أنبل ‏هديّة وأعطوا وطنهم وعروبتهم أجزل العطاء، فلقد كنتم جميعًا والله أمثولةً يعزّ لها النّظير في ‏العزم والإيمان، وقمّة ولا كالقمم في التصميم والثبات، وضربتم في الدفاع عن قدسيّة الوطن ‏والذَّود عن شرف العروبة أمثولة ستظلّ تعيش على مرّ الزمان‎.

Leave A Comment

ركن الفكر للثقافة

مؤسسة فردية غير ربحية نسعى لخدمة المجتمع وتلمس احتياجاته والتوعية بقضاياه فكريا و اعلاميا و ثقافيا.